ملخص الخطبة
1- من صفات عباد الله المؤمنين. 2- معنى الخشوع. 3- فضل الصلاة. 4- محلّ الخشوع. 5- فضل الخشوع. 6- أسباب الخشوع في الصلاة. 7- حرص الشيطان على إفساد صلاة العبد.
-------------------------
الخطبة الأولى
أمّا بعد: فيا أيّها الناس، اتقوا الله تعالى حقَّ التقوى.
عبادَ الله، إنَّ الله جلّ وعلا وصفَ عبادَه المؤمنين بصفاتٍ حميدة، بيّنها لنأخذَ بها ونطبِّقها لننالَ برحمةِ الله الثوابَ العظيم المترتِّب على ذلك العمل، قال تعالى: قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ هُمْ فِى صَلاَتِهِمْ خَاشِعُونَ [المؤمنون:1، 2]، إلى أن قال: وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صلاتِهِمْ يُحَافِظُونَ أُوْلَئِكَ هُمُ الْوارِثُونَ الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ [المؤمنون:9-11].
أيّها المسلم، ابتَدأ الله صفاتِ المؤمنين بقوله: الَّذِينَ هُمْ فِى صَلاَتِهِمْ خَاشِعُونَ، مدَح المؤمنين بأنهم خاشِعون في صلاتهم. ومعنى الخشوع السكينةُ في الصلاة، خشوعُ القلب وذلُّه لله. ذلكم الخشوعُ نتيجة استحضار قلب المسلم حينما يقِف بين يدَي الله، يستحضِر عظمةَ من يقف بين يدَيه وكبرياءَه وجلاله، وأنّه يقف بين يدَي ربِّه وخالقه ورازقه والمتصرِّف في أحواله كلِّها. إذًا فتصوُّر عظمةِ ذلك الموقِف يؤدِّي إلى خشوعِ القلب وإقباله على الله.
أيّها المسلم، الصلاةُ من أجلِّ الأعمال وأفضلِ الأعمال، هي الركنُ الثاني من أركانِ الإسلام، هي عمودُ الإسلام. هذه الصلوات الخمس المحافظةُ عليها والعنايةُ بها سببٌ لزكاءِ القلب وطهارةِ النفس وتهذيب الأخلاق والسلوك، ولكن لا يتحقَّق ذلك إلاَّ إذا خشَعتَ في صلاتك وأقبلتَ عليها بقلبِك وفرَّغتَ قلبك من كلّ شُغل أثناء الأداء إلاَّ بهذه الصلاة، بقراءَتها وأذكارِ ركوعها وسجودِها وجلوسها، وتأمَّلتَ ذلك حقَّ التأمّل، فإنك بذلك تخشع في صلاتك.
أيّها المسلم، مقامُ الخشوعِ القلب، فالقلبُ ملِك الأعضاء، في الحديث: ((ألا وإنَّ في الجسد مضغةً؛ إذا صلح لها صلح الجسد كلّه، وإذا فسدَت فسد لها الجسد كلّه، ألا وهي القلب))(1)[1]. فمقام الخشوع في قلبِ العبد، فإذا خشَع قلبه خشعت جوارحُه، إذا خشَع قلبه خشعَت لله جوارحه، فترى ذلك المصليَ مقبلاً على صلاته، قليلَ العبَث والحركة، مقبِلاً بقلبه على صلاته، متدبِّرًا لقراءتها والأذكار المشروعةِ في كلّ ركن من أركانها، فيخرُج منها وقد زَكت نفسُه وصلح قلبه واستقام حالُه وتأثَّر بأداء تلك الفريضة التأثرَ المطلوب شرعًا، وَأَقِمِ الصلاةَ إِنَّ الصلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ [العنكبوت:45].
أيّها المسلم، إنَّ الصلاة شاقّةٌ على الكثير إلاَّ على الخاشعين، فالخاشعون يؤدّون هذه الصلاةَ عن رغبةٍ وحبٍّ وشوق إليها، قال تعالى: وَاسْتَعِينُواْ بِالصَّبْرِ وَالصلاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلاَّ عَلَى الْخَاشِعِينَ [البقرة:45]. إذًا فالخاشِعون فيها أداؤ،ها يسير عليهم وفعلُها غير شاقّ عليهم، بل يجدون في أدائها راحةَ القلب وطمأنينةَ النفس وانشراحَ الصدر، فهي قرّة أعينِ أهل الإيمان وراحتُهم ولذّة نفوسِهم، وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلاَّ عَلَى الْخَاشِعِينَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُم مُّلَاقُوا رَبّهِمْ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ راجِعُونَ [البقرة:45، 46]، فليقينِهم بملاقاة الله وأنّ مردَّهم إلى الله سهُلت تلك الصلاة عليهم، فأقبلوا عليها بقلوبهم مطمئنِّين خاشعين ذليلين مستكينين لرب العالمين.
أيّها المسلم، إنَّ للخشوعِ في الصلاة أسبابًا، بيَّن ذلك النبيّ .
فأولاً: يقول : ((أمِرت أن أسجدَ على سبعةِ أعظُم، وأن لا أكفَّ شعرًا ولا ثوبًا))(2)[2]. إذًا فالعبَث بالثياب والشعر ونحو ذلك مما يضعِف خشوعَ القلب في الصلاة، فمن كان في صلاتِه يعبِث بملابسِه بشَعره ونحو ذلك فذاك مما يسبِّب عدمَ خشوع قلبه.
ومن الأسباب أيضًا عدمُ رفعِ البصر هنا وهناك، فالنبيّ يقول: ((لينتهينَّ أقوامٌ عن رفعهم أبصارَهم إلى السماء))، فاشتد قوله حتى قال: ((أو لا ترجع إليهم))(3)[3].
ومن أسباب ذلك البعدُ عن نظرِ كلِّ شيء يمكن أن يشغلَ القلبَ ويلهيَه، جاء في الحديث أنّ عائشة رضي الله عنهما سترت بيتَها بسِتارة فيها تصاوير، فقال لها النبي : ((أزيلي عنّا قرامَك هذا؛ فإنّ تصاويرَه لا تزال تعرِض لي في صلاتي))(4)[4]. فابتعَدَ عن كلِّ مظهر ورؤيةِ كلّ شيء يمكِن أن يشغل قلبَه.
صلّى في خميصةٍ لها أعلام، فنظر إلى أعلامِها، فلما انصرف قال: ((اذهبوا بخميصتي هذه إلى أبي جهمٍ، وأتوني بأنبجانيّة أبي جَهم، فإنّ أعلامَها أشغلتني عن صلاتي))(5)[5]. فصلوات الله وسلامه عليه، ما أشدَّ خوفَه من الله وبعدَه عن كلّ شيء يشغِله عن خضوع قلبه في صلاته.
ومن الأسباب أيضا ما جاء في الحديث أنّه قال: ((لا صلاةَ بحضرةِ طعام، ولا وهو يدافِعه الأخبثان))(6)[6]، فأخبرَ أنّ المسلمَ لا يدخُل في الصلاة وعنده توَقانٌ للطعام لشدة جوعه وحِرصه، حتى يدخلَ الصلاةَ وهو حاضرُ القلب لا يتعلَّق قلبه بذلك. وكذلك من حُصِر ببولٍ أو غائط، فلا بدّ من استفراغِ ذلك حتى لا يكون ذلك مشغِلاً له عن حضورِ الصلاة، وقال: ((إذا حضَر المغرب والعَشاء فابدؤوا بالعشاء قبلَ المغرِب))(7)[7].
أيّها المسلم، ومن الأسبابِ أيضًا البعدُ عن العبَث بالأشياء، فالنبيّ نهى المسلمَ عن مسِّ الحصَى وهو يصلّي، وقال: ((إن كان لا بدّ فواحدة))(
[8]، حتى تسلَم له صلاته.
أيّها المسلم، أوصيك بالخشوعِ في صلاتك، أقبل عليها بقلبك، واتّق الله فيها، واعلم أنه لن تستفيدَ من صلاتك إلاَّ على قدرِ خشوعك فيها، جاء في الحديث عنه قال: ((إنّ العبدَ ليصلّي الصلاةَ ما يكتَب له إلاَّ نصفُها، إلا ثلثُها، إلا ربعُها، إلا سدسُها))، حتى قال: ((إلا عشرها))(9)[9]، بمعنى أنَّ هذه الصلاةَ لا تنال منها إلا على قدرِ حضور قلبِك وإقبالِك عليها. قال بعض السلف: يقِف الناسُ في الصفِّ وما بين هذا وهذا ما بين السماء والأرض. أحدٌ قلبه معلَّق بالخير، دائرٌ حولَ الخير والهدى، وإنسانٌ واقف بجسده وقلبُه يجول في الدنيا هنا وهناك.
أيّها المسلم، كلما عظُمت الصلاة في نفسِك وكلّما كانت غاليةً عندك عزيزةً عليك كلّما ازددتَ خشوعًا وإقبالاً على القلبِ فيها وعدمِ الحركة والعبث فيها. أقبل عليها، أدِّها مطمئنًّا فيها، خاشعًا في قيامها وركوعِها وسجودِها لاستحضارِك عظمةَ مَن تقف بين يديه، فيكون المسلم محبًّا لهذه الصلاة راغبًا فيها متعلِّقًا قلبُه بها.
أيّها المسلم، يقول : ((ما مِن مسلم تحضرُه صلاة مكتوبةٌ فيحسِن وضوءَها وركوعَها وخشوعَها إلاَّ كفَّرت ما بينه وبين الصلاة الأخرى ما لم تؤتَ كبيرة، وذلك الدهرَ كله))(10)[10].
أيّها المسلم، فإذا كان الخشوع في الصلاة سببًا لأن تكفِّر عنك ما بين الصلاة والصلاة الأخرى من صغائرِ الذنوب فاحرص على هذا الخشوع، وأقبِل على صلاتك، ولا تكن فيها من العابثين المتساهلين.
كم يصلّي الفردُ منا وللأسف الشديد لو تسأله: ماذا قرأ الإمام؟ لم يعطك جواب، وكم صلى الإمام؟ لم يعطك جواب. لماذا؟ وقف في الصفّ بجسده، ولكنَّ القلبَ غائب.
رأى عمر رضي الله عنه رجلاً يعبث في صلاتِه فقال: (لو خشَع قلبُ هذا لخشعَت جوارحه)(11)[11]. فالقلبُ لو خشع لكانت الجوارحُ خاشعة، لكن لما كان القلبُ غافلاً وغائبًا كان أثرُ ذلك على جوارحِ ذلك المصلّي. فاعلم أنّ خشوعَ القلب بقلّة العبث، واعلم أن كثرةَ العبَث دليلٌ على قلّة الخشوع وضّعف الخشوع.
فيا أخواني، احرِصوا على صلاتكم، واحفَظوها تبقَ لكم، وأدّوها كما أمِرتم، لتكونَ عونًا لكم على كلّ خير، ومسهِّلةً لكم القيامَ بالواجب.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإيّاكم بما فيه من الآيات والذّكر الحكيم، أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولسائر المسلمين من كلّ ذنب، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
-------------------------
الخطبة الثانية
الحمد لله حمدًا كثيرًا طيّبًا مباركًا فيه كما يحبّ ربنا ويرضى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أنّ محمّدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه، وسلّم تسليمًا كثيرًا إلى يوم الدين.
أمّا بعد: فيا أيّها الناس، اتقوا الله تعالى حقَّ التقوى.
عبادَ الله، النبيّ قال: ((إذا صلّى أحدُكم إلى شيء يستُره من الناس فأراد أحدٌ أن يمرَّ بين يديه فليدفعه، فإن أبى فليقاتِله فإنما هو شيطان))(12)[1].
أيّها المسلم، ما السببُ في أن المصلّيَ يتأكَّد في حقّه، بل قد يجب في حقِّه أن يمنعَ المارَّ بينه وبين سُترته، لماذا؟ الحكمة من ذلك أن لا يشتغلَ القلب بأيّ منظَر، فمنعُك الإنسانَ من المرورِ بين يديك حرصًا على حضور قلبك، وأن لا يكونَ ذلك المارّ مشغِلاً لقلبك وملهيًا لنفسك، بل تقبِل على صلاتك، فإذا كثُر المارّون بين يديك فإنّ ذلك يشغل قلبَك ويلهيه، ولا يجعلك تخشَع في صلاتك الخشوع المطلوب.
أيّها المسلم، إنّ عدوَّ الله إبليس يحاوِل إفسادَ صلاة العبدِ بكلّ ما أوتي من إمكان، لأنّه إذا أشغلَ قلبَه في صلاته ضاعت عليه صلاتُه وقلَّ تأثّره واستفادته منها.
جاء في الصحيح أنّ الشيطان يقِف عند بابِ المسجد، فإذا أذِّن للصلاة ولى وله ضراط حتى لا يسمعَ الأذان، فإذا انقضى الأذان أقبل عند بابِ المسجد، فإذا ثوِّب بالصلاةِ ـ الإقامة ـ ولى له ضُراط، فإذا انقضت أقبل حتى يحولَ بين الرجل وبين قلبِه، يقول: اذكُر كذا اذكر كذا(13)[2]، بمعنى أن يذكّره ما غابَ عنه، وأن يحضِر له كلَّ بعيد، ويقرِّب له كلَّ بعيد، حتى يشغلَ قلبَه ويلهيه عن صلاته، لكن إذا وجَد قلبًا حيًّا يقضًا وقلبًا مستنيرًا بالخير وقلبًا مقبلِاً على الله وقلبًا واثِقًا بالله وقلبًا مفرَّغًا لطاعة الله فإنّ عدوَّ الله لا يجِد لذلك ملجأ، عدوّ الله يغتنم فرصات الغفلة، فإذا وجَد قلبًا يقضًا مستنيرًا بالخير محروسًا بالأذكار والأوراد فإنّ الشيطان لا يجد له منفذًا، فيرجع خائبًا خاسئًا.
أيّها المسلم، فأقبِل على الصلاة، واعلم أنّك في جهاد في صلاتك، بينك وبين عدوّ الله الذي يريد أن يفسدَها عليك، ويضعِف دورَها في نفسك. فأنت في جهادٍ في صلاتك، فأقبِل عليها واستعِن بالله على ذلك، وتدبَّر قراءة القرآن، وأنصِت لقراءةِ الإمام، وتذكَّر أذكارَ الركوع والذكرَ بعد الركوع وأذكارَ السجود والذكرَ بين السجدتين والتشهدَ الأوّل والأخير، وأقبِل على الدعاءِ في الصلاة، فإنّك بذلك تسلَم من مكائد عدوّ الله، أعاذني الله وإيّاكم من ذلك.
واعلموا ـ رحمكم الله ـ أنّ أحسن الحديث كتابُ الله، وخيرَ الهدي هدي محمّد ، وشرَّ الأمور محدثاتها، وكلَّ بدعة ضلالة، وعليكم بجماعةِ المسلمين، فإنّ يدَ الله على الجماعة، ومن شذّ شذّ في النار.
وصلّوا ـ رحمكم الله ـ على عبدِ الله ورسوله محمّد كما أمركم بذلك ربّكم حيث يقول: إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِىّ ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ وَسَلّمُواْ تَسْلِيمًا [الأحزاب:56].
اللهمَّ صلِّ وسلِّم وبارك على عبدِك ورسولك محمّد، وارضَ اللهمّ عن خلفائه الراشدين...
__________
(1) أخرجه البخاري في الإيمان (52)، ومسلم في المساقاة (1599) عن النعمان بن بشير رضي الله عنه.
(2) أخرجه البخاري في الأذان (810، 812، 815)، ومسلم في الصلاة (390) عن ابن عباس رضي الله عنهما.
(3) أخرجه مسلم في الصلاة (428) جابر بن سمرة رضي الله عنه نحوه.
(4) أخرجه البخاري في الصلاة (374) عن أنس رضي الله عنه نحوه.
(5) أخرجه البخاري في الصلاة (373)، ومسلم في المساجد (556) عن عائشة رضي الله عنها.
(6) أخرجه مسلم في المساجد (560) عن عائشة رضي الله عنها.
(7) أخرجه البخاري في الأذان (672)، ومسلم في المساجد (558) عن أنس رضي الله عنه بمعناه.
(
أخرجه البخاري في العمل في الصلاة (1207)، ومسلم في المساجد (546) عن معيقيب رضي الله عنه.
(9) أخرجه أحمد (4/319، 321)، وأبو داود في الصلاة (796)، والنسائي في الصلاة من الكبرى (612)، والبيهقي (2/281) من حديث عمار بن ياسر بمعناه، وصححه ابن حبان (1889)، وحسنه الألباني في صحيح الترغيب (537).
(10) 10] أخرجه مسلم في الطهارة (228) عن عثمان رضي الله عنه.
(11) 11] نقلت هذه العبارة عن سعيد بن المسيب رحمه الله، رواها عنه ابن المبارك في الزهد (1188)، وعبد الرزاق في المصنف (2/266)، وابن أبي شيبة في المصنف (2/86).
(12) أخرجه البخاري في الصلاة (509)، ومسلم في الصلاة (505) عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه.
(13) أخرجه البخاري في الأذان (608)، ومسلم في الصلاة (389) عن أبي هريرة رضي الله عنه.